لم يعد الإسلام محصورا - كما كان يروج كثير من الناس - في مجموعة عبادات أو أحكام شرعية وعبارات وتأويلات في علم الكلام او مجالات اخرى في شتى علوم التفسير والاجتهاد تشغل الناس والاتباع وتملأ فراغات وقتهم.. فذلك مع اهميته لا يعدو ان يكون جزءا من منظومة الاسلام الكبيرة وفي محاولة لتبرير ذهابهم إلى تلك الزاوية الضيقة نقول انه لم يكن هناك ضرورة لانشغالهم بما هو قائم من سيادة الأمة وعلو شأنها..
الاسلام اصبح هوية وثقافة ومزاجا نفسيا وانتماء حضاريا وتاريخيا وامتزج بالمقومات الخاصة لشعوبه، وهو في هذا امتلك القدرة الجبارة على تحريك المنتمين إليه في معارك الوجود الفاصلة ومثّل خط الصمود الأول والدفاع المستميت عن كرامة الشعوب وهويتها وسيادتها.. فهو بهذا انتقل ليكون البُعد النفسي المحرِّك للمجتمعات العربية والاسلامية في معاركها المفصلية.. وهو مسوغ وحدتها وقوتها وتميُّزها وسيادتها.
والاسلام ايضا اكبر من ذلك.. فهو منهج تفسير علمي للتاريخ وحركات المجتمعات ونهضات الأمم وانحدارها من خلال منظومة دقيقة للفهم، محكومة بنواميس وسنن يكون اكتشافها وتدبرها دربا راقيا للعبادة النوعية والتقرب إلى الله.. مرفوض في عرفها التهويم والظن والضرب عشوائيا والسير على ضلال انما بالعلم من خلال أدواته الدقيقة والحساسة المنضبطة فقدم بذلك للعقل البشري فرصته الاستثنائية لكي يتحرك حرا في الفهم والإبداع والاستنتاج.
والاسلام كذلك اكبر من كونه مدرسة معرفية مع ضرورتها وأهميتها، او هوية حضارية للأمة مع عظيم دورها، فهو ايضا حامل منظومات قيمية ومفاهيمية للإنسان بغض النظر عن عرقه ومعتقده وطبقته وفئته.. اي بتركيز هو نظام جامع لحياة الإنسان بعيدا عن العنصرية والاستغلال والظلم.. وينحاز بشكل طبيعي وتلقائي للإنسان، حيث هو الإنسان على اعتبار انه انما رحمة للعالمين..
في مواجهة هذ الاسلام يحاول المستعمرون
بلا كلل تفسيخه ودحره جزءا جزءا من المشهد الإنساني.. فهم يحاولون بدأب
طمسَ بعض معالمه الإنسانية وتشويه معالم اخرى في عملية تغطية لحقيقة
رسالته، ولقد أفاض البروفيسور ادوارد سعيد في تفسير هذه العملية
الاستعمارية في كتابيه: "الاستشراق"، و"تغطية الإسلام".. ولم يقف الأمر عند
التشويش على مهمته الإنسانية في إنقاذ البشرية من جور المناهج المعوجة
والبرامج الشريرة التي تستعبد الإنسان بصورة من الصور، وتقود الحرب ضد
البشرية المعذبة، وبعد ان شوهوه في وعي شعوبهم اتجه المستعمرون ودهاقنة
الاستعمار إلى محاصرة الإسلام في دياره ليجعلوه في حس الناس دينا عنصريا
لقوم من أقوام الأرض.. وخطوة بعد اخرى قاموا بتجزئته ومحاصرته في شكل
كاريكاتوري وفسخوا أمته شعوبا وقوميات ومذاهب وإثنيات ارهقت كيانه وجعلته
في اصعب مراحل رحلته وكان ضياع فلسطين ولايزال تتويجا لنكبة الإسلام
الكبرى.
ولحكمةٍ
بالغة يرتبط مصير فلسطين بمصير الإسلام في هذا العصر، وكما حصل لتشويه
رسالة الإسلام ومهمته طالت فلسطين تشويهاتٌ على مراحل عديدة وفقدت فلسطين
رسالتها وهويتها في اضطراب المناهج والبرامج الجزئية والمحدودة.
لقد تناولت المناهج الجزئية موضوع فلسطين
بالمعالجة فكان التشويه والخسارة من مرحلة إلى اخرى ومن منهج إلى آخر لتصاب
كل المشاريع بهزائم فادحة ولينتهي الأمر وكأن فلسطين ضاعت كلها واصبح
مسجدها الأقصى بيد الصهاينة.
وهكذا تصبح فلسطين مرآة الإسلام المكثفة
كأمة ورسالة وهكذا ترتبط حالتاهما ارتباطا عضويا فهما يسيران على خطين
متناظرين يتقدم احدهما بتقدم الآخر او بمعنى أدق تتقدم فلسطين بتقدم
الإسلام نهوضا وانسانية وحضارة وقوة ومنعة وكرامة وسيادة.
ولحكمة إلهية بالغة يقف أعداء نهوض
الإسلام وعودته في موقف العداء الأول لفلسطين.. ويبذل اولئك كل الجهد
لتفتيتها وتشتيت اهلها وتغيير معالمها واستنساخ واقع جديد لها كما يفعلون
بالإسلام تماما تقزيما وتشويها وتجزئة وطمسا وتلفيقا..
لقد اصبحت فلسطين في نظر البعض مختصرة إلى
جغرافيا حسب الترسيم البريطاني في الانتداب، معزولة عن انتمائها التاريخي
والاجتماعي والجغرافي، ومعزولة عن حقيقة الصراع الدائر وطبيعته بين الإسلام
والامبريالية الغربية.. وهنا ليس جديرا بالذكر الطرح المقزم لفلسطين الذي
يراها على حدود خمُسها الجغرافي معزولة عن اي رؤية قومية او حضارية او
انسانية.
وحاول البعض تقديم فلسطين على انها ارض
العرب، بل وصرة بلاد العرب ومركز حيويتهم التاريخية فمنحوها ثقافة الثأر
والكفاح لاستردادها لوصل وحدة بلاد العرب المركزية في الشام ومصر والجزيرة.
وفي مشهد اكثر اتساعا رأى البعض انها قلب
الإسلام وفيها مسجده الأقصى وتاريخ الإسلام ومعاركه بالغة الأثر حطين وعين
جالوت واليرموك.. وبهذا ايضا ظلت معركة محدودة مهما امتدَّ اثرها لأن
فلسطين اوسع من ان تكون قضية وطنية او قومية او قضية مسلمين فهي عنوان تحدي
الزيف والظلم الكوني.. فمن العسر ان توضع عنوانا لكفاح وطني او قومي او
اتباع دين فحسب، بل هي وفق معيارها الانساني وهو الإدراك الأرقى للإسلام
ورسالته، حيث التصدي للظلم والجور والضيق على مستوى البشر كافة.. وهذا ما
نرى انعكاساته سريعا على كل الأحرار في العالم لاسيما ثوار امريكا
اللاتينية وشرفاء واحرار العالم الذين يرون في فلسطين عنوانا لكل قضاياهم
ضد الشر العالمي والهيمنة الامبريالية..
في مقابل الإسلام وفلسطين تقف الامبريالية
الغربية الجشعة بأدواتها العديدة الحقيقي منها والمؤقت، وقد غرس الاستعمار
وهو مشروع الامبريالية الخارجي الكيان الصهيوني في ارض فلسطين لإنجاز
وظائف عديدة استراتيجية وأمنية في المنطقة والعالم على صعيد التخريب
والتشويه والاختراق.. وتمثل هذه القاعدة فضلا عن كل ما سبق من وظائف تتويجا
للهيمنة الغربية والتسلط الاستعماري على أمتنا في مجالات عديدة.
وكانت الامبريالية الغربية منذ البداية
تعرف ان قدرتها على دحر رسالة الإسلام وتشويهها تحتاج إلى امتلاك التفوق
الصناعي والحربي والمالي فتحركت عجلة الغرب الرأسمالية الجبارة تضرب بجنون
في كل اتجاه تستغل كل مصادر الطاقة من اجل مضاعفات الإنتاج وتفتق العقل
الغربي في ظل التشجيع والتحفيز على عبقريته المادية الكبيرة في شتى
المجالات الإنتاجية..
وعلى صعيد المجتمع قدمت الرأسمالية
تنازلات عديدة لصالح قطاعات اجتماعية لاسيما العمال والفلاحين والطلبة في
محاولة لامتصاص الاحتقانات الاجتماعية، لكنها توغلت في استعباد الانسان
وتحويله إلى أداة استهلاك لمنتوجات مصانع يمتلكها الرأسماليون الكبار..
وهكذا نرى ان الامبريالية تخوض حربين في آن واحد؛ إنها الحرب المنهجية ضد
الإسلام الرسالة ومنظومة القيم والمفاهيم والأمة التي يمكن ان تتحرك يوما
ما به، وعلى الجبهة الأخرى ضد كرامة الإنسان وحريته في الداخل بتقييده
بنظام اجتماعي واقتصادي وثقافي واعلامي ينتهي به إلى ان يصبح حالة
استهلاكية وأداة معبَّأة عنصريا ضد كل ماهو خارج اطار المنهج الامبريالي.
اننا ازاء صراع مفتوح ومعركة في جبهات
عديدة وفي كل التفاصيل كما هو واضح من وقائع حركة التاريخ الطاحنة، وعبر
قرون طويلة.. وكما هو واضح على الصعيد المعرفي والنظري، حيث التناقض
الجوهري بين رسالة الحضارة الإسلامية ورسالة الحضارة الغربية.. من هنا
نلتقط بداية الطريق نحو مستقبل الإسلام وفلسطين؛ انه طريق الصحو الحضاري
والانتباه والوعي الإنساني وفهم القيمة الروحية والاستراتيجية التي تتحلى
بها فلسطين كنقطة ارتكاز كاشفة لنهضة الأمة وتفوقها الإنساني ومستقبل
الإسلام منهجا انسانيا رحمة للعالمين المسلمين وغيرهم سواء.. تولانا الله
برحمته.
المصدر : الشروق
